مقدمة
لم يعد الإنسان اليوم يستفيق على زقزقة العصافير ولا ينام على سكون الليل؛ بل غدا يعيش في كنف شاشة صغيرة ترافق أنفاسه. التكنولوجيا لم تعُدْ أداة مساعدة فحسب، بل تحوّلت إلى فضاء جديد نصوغ فيه حياتنا، نتواصل ونتعلم ونفرح ونحزن. غير أنّ لهذه الثورة الرقمية وجهين: وجه مضيء يفتح آفاق الدعم النفسي والوصول إلى العلاج، ووجه معتم يهدد الطمأنينة الداخلية حين يفضي إلى عزلة أو إدمان أو اضطراب في النوم والمزاج.
التكنولوجيا بين نعمة ونقمة
تشير الدراسات الحديثة إلى أنّ منصّات التواصل الاجتماعي قد تكون جسرًا يصل الفرد بالعالم، تمدّه بالدعم الاجتماعي وتخفف غربته، لكنها في الوقت ذاته قد تصبح فخًا يقوده إلى المقارنة المستمرة، وانخفاض تقدير الذات، وارتفاع أعراض القلق والاكتئاب.
وقت الشاشة وأحلام المراهقين
أطفال هذا الجيل ومراهقوه يعيشون في حضن الشاشات. وقد أظهرت البحوث أنّ الإفراط في وقت الشاشة، خاصة لأغراض التسلية، يرتبط بزيادة الاضطرابات النفسية، فيما يتراجع نشاطهم البدني ويتشوّه انتظام نومهم. على النقيض، فإنّ الاستخدام التعليمي أو التفاعلي قد يُثري معارفهم ويقوّي روابطهم.
الهواتف الذكية وسرقة النوم
يظل إصبع المراهق يقلبّ الصور، وعينه تحدقّ في الضوء الأزرق البارد. وهنا يبدأ الأرق، ويتأخر النوم، فيتدهور المزاج ويزداد القلق. لقد بيّنت الدراسات أنّ هذا الضوء يعطّل إفراز الميلاتونين، وأنّ اليقظة المستمرة بفعل الإشعارات والمحتوى العاطفي تُرهق الدماغ.
العلاج الرقمي: بصيص الأمل
الوجه الآخر للتكنولوجيا يكشف عن بارقة رجاء. فقد برهنت التدخلات الرقمية، من تطبيقات العلاج السلوكي المعرفي إلى الجلسات الافتراضية، على فعاليتها في التخفيف من الاكتئاب والقلق، وفتحت باب الأمل أمام من حُرموا الوصول إلى الرعاية التقليدية. إنها أداة لدمقرطة العلاج النفسي، شرط أن تُصمَّم وفق معايير علمية وتُدار بيد مختصين يحفظون خصوصية المريض وأمن بياناته.
كيف نوازن الكفّتين؟
- إبعاد الشاشات ساعة على الأقل قبل النوم لتستعيد النفس هدوءها.
- ليس المهم كم ساعة نقضي أمام الشاشة، بل كيف نقضيها.
- رصد بوادر الإدمان والاستخدام القهري للهاتف والتعامل معها كاضطراب يحتاج إلى تدخل.
- استثمار العلاج الرقمي عبر التطبيقات والمنصات ذات الفعالية المثبتة سريريًا.
- وعي جماعي عبر سياسات مدرسية ومؤسسية وحملات توعية تشرك الأسرة والمجتمع.
آفاق البحث
- دراسات طويلة المدى تكشف أيهما يسبق الآخر: الاضطراب النفسي أم الإفراط الرقمي؟
- تجارب تقيس أثر تقليص وقت الشاشة على جودة الحياة النفسية.
- معايير تفصل بين الغثّ والسمين في بحر التطبيقات الرقمية.
خاتمة
التكنولوجيا، كالبحر الواسع، تحمل في أعماقها اللؤلؤ والمرجان، كما تخفي في جوفها العواصف والتيارات. هي فرصة للشفاء والانفتاح إن أحسنّا قيادتها، ومصدر قلق وعزلة إن تركناها تجرّنا بلا وعي. إنّ معركتنا في هذا العصر ليست مع الشاشة ذاتها، بل مع كيفية استخدامها: أن نطوّعها لننعم بصحة نفسية أفضل، لا أن نغدو أسرى بين يديها.
تحرير:
حيادة سفيان
كاتب محتوى - منصة IRL
المراجع
- U.S. Surgeon General. Social Media and Youth Mental Health: Advisory. 2023.
- Schmidt-Persson J., et al. "Effects of reducing leisure screen time on mental health in children and adolescents." JAMA Network Open, 2024.
- Nikolic A., et al. "Smartphone addiction, sleep quality, depression, anxiety and stress among university students." Frontiers in Public Health, 2023.
- Kim J., et al. "Effectiveness of digital mental health interventions for depression and anxiety: Systematic review." Journal of Affective Disorders, 2023.
- Khalaf A. M., et al. "The impact of social media on the mental health of adolescents and young adults: A systematic review." Frontiers in Psychiatry, 2023.