دوبامين دوبامين دوبامين

الدوبامين ناقل عصبي في الدماغ يلعب دورا رئيسيا في نظام المكافأة الذي تحدثنا عنه. وتقوم التطبيقات الرقمية باستغلال هذا النظام بشكل ممنهج، وبطرق لا أخلاقية لا تراعي صحة الإنسان.

يمكن تلخيص آلية هذا النظام الممنهج في دورة تتكون من أربع مراحل:

  1. تحفيز: إشعار جديد، رنين الهاتف، شعور بالرغبة في معرفة أين انتهت قصة أم سميرة مع زوجة ابنها.
  2. توقع: ارتفاع الدوبامين مع توقع المكافأة المحتملة.
  3. مكافأة: الحصول على "أخبار جديدة" أو تفاعل اجتماعي.
  4. تكرار: تكرار السلوك بحثا عن المزيد من الدوبامين.

الحقيقة المهمة: الدوبامين يرتفع أكثر خلال مرحلة التوقع، وليس عند تلقي المكافأة نفسها. هذا هو سبب استمرارك في التحقق من هاتفك حتى عندما تجد أشياء غير مهمة.

لماذا لا يعمل "صيام الدوبامين"

ذكرنا بضع أفكار حول هذا في الشق المتعلق بالاستراحات الرقمية، بحكم كيف يتم استعمال فكرة صوم الدوبامين لبيع تلك التجارب والمنتوجات الاستجمامية، لكن يمكن القول أن صيام الدوبامين لا ينجح على المدى البعيد والعمومي ببساطة لأنه يعتمد على فهم خاطئ لعلم الأعصاب:

  • لا يمكن "تصفير Reset" مستقبلات الدوبامين خلال أيام قليلة.
  • الدوبامين ليس "سما" يحتاج إلى تطهير، بل نظام طبيعي عادي ضروري.
  • التركيز على الدوبامين يضلل عن المشاكل الأكبر.
  • الانقطاع المفاجئ عن مصادر الدوبامين يمكن أن يؤدي إلى عودة مفرطة.


لنبسطها أكثر 

نعود خطوة إلى الوراء ونسأل: كيف يقرر الإنسان ما الذي يفعله؟ كيف، بمعنى ما هي الآلية الميكانيكية التي تتجسد بها إرادة الفرد؟

الجواب باختصار: بواسطة نظام كيميائي داخل الدماغ يتحكم في السلوك، الدافع، والعادة، وجزء أساسي من هذا النظام هي إشارات كيميائية تُسمى "الناقلات العصبية".

الآن تخيل أن داخل دماغك طاقم عمل صغير، وهذا الطاقم يتكون من فرق مختلفة، وكل فريق مسؤول عن نوع معين من المهام، ويتواصل مع الآخرين عبر رسائل سريعة جدا. هذه الرسائل هي ما نسميها الناقلات العصبية.

نتعرف على أبرز الفِرق داخل هذا الطاقم:

فريق الدوبامين (Dopamine): فريق "التحفيز والسعي".

عمله أن يشعل الحماس داخلك ويجعلك ترغب في القيام بأشياء، سواء كان فتح تطبيق أو استعداد للسفر أو مشاركة رابط هذا الكتاب مع كل معارفك، ويقول لك: "هناك مكافأة قادمة ... إنطلق!"

فريق السيروتونين (Serotonin): فريق "الرضا والاطمئنان".

يساعدك على الشعور بالاستقرار والثقة والهدوء عندما تنجز شيئًا أو تحس بأنك في مكانك الصحيح، يمكن تشبيهه بيد الذات العليا عندما تربت على كتفك، وتقول لك: "أحسنت"

فريق الأوكسيتوسين (Oxytocin): فريق "العلاقات والروابط".

ينشط عندما تتواصل مع شخص تحبه، أو تشعر بالأمان في المجموعة.

فريق الإندورفين (Endorphins): فريق "المتعة وتخفيف الألم".

ينشط عند الضحك، التمرين، الجنس أو الأكل. مسكن ألم طبيعي، والمسؤول عن لحظات الراحة واللذة، رغم أن الدوبامين يسرق منه الأضواء في الثقافة العامة.


الآن تخيل أن طاقم العمل هذا أصبح عنده أرباب عمل جدد.

شركات التكنولوجيا، الـBig Tech.

أرباب العمل الجدد هؤلاء قبل أن تأتيهم الفكرة لتفعيل الربح والـMonetization داخل كينونتك بالذات، كأن جسدك يشبه أي قناة أو موقع لهم الحق في استغلاله وتعدينه (سنتحدث عن الفلسفة وراء هذا في الفصل الأخير). لاحظوا شيئا مهما جدا: من بين جميع الفرق داخل دماغك، هناك فريق واحد يمكن استهدافه والتحكم فيه بسهولة، والضغط عليه لينتج المزيد، فريق منغلق على دائرة مهامه، وهو المسؤول في آخر المطاف على دفعك لفعل الأشياء. هو فريق الدوبامين.


لم الدوبامين؟

لعل السبب في أن الدوبامين أصبح الهدف الأبرز للاختراق من طرف الطفيليات على الإرادة والسيادة الذاتية هو أنه يجمع بطريقة فريدة بين خاصيتين:

  1. أولاهما أنه المسؤول عن التحفيز والتوجيه نحو السلوك، أي أنه يشعل شرارة "الرغبة في الفعل"، وهذا يجعله بوابة رئيسية للتأثير على القرارات والسلوك البشري.
  2. ثانيتهما أنه، مثل باقي أنظمة الجسم، يعمل وفق منطق "التركيز على المهمة".

تقريبا كل نظام بيولوجي يعطي الأولوية لوظيفته الخاصة دون اعتبار حصري إلى الصورة الكلية للإنسان.

هذا الجمع بين الدور المحوري (التحفيز والسعي) والتركيز الضيق على المهمة (الأنانية الخلوية الطبيعية) يجعل من نظام الدوبامين ثغرة قابلة للاستغلال؛ إذ يمكن التحايل عليه ودفعه لتكرار سلوكيات حتى وإن لم تكن مفيدة أو صحية، يعني مضطربة، طالما أنها تطلق الإشارة التحفيزية، وهذا ليس بعيب أو قصور ذكاء الوجود، فإذا كانت الأمور هكذا فغالبا ما كانت لتكون بهذا الشكل سوى كذلك.

الدوبامين لا يهتم إن كانت المكافأة حقيقية أو وهمية. يكفي إيهامه بأن هناك شيئا يستحق المتابعة والاستمرار في الفعل: إشعار، لايك، فيديو قصير، خبر عاجل ... ليطلق سيلا من التحفيز داخلك، يدفعك لتكرار السلوك بلا وعي، وشركات التكنولوجيا بمهندسيهم و”Think Tanksاتهم” وعلمائهم وأطبائهم لم يخفى عليهم كل هذا، كانت نافذة تنتظر أي ضمير معطل طموح ليدخل منها، فبدأت ببناء أنظمتها حولها. منصات التواصل، التطبيقات، الألعاب، كلها مصممة لتحفيز "فريق الدوبامين"، دون أن تمنحك شعورا حقيقيا بالشبع أو الرضا.

الوجه الآخر للخدعة

فريق الدوبامين لا يعمل لوحده، بل هو مبرمج بذكاء بيولوجي عميق: مهمته أن يتحفز عندما يلتقط إشارات تُشير إلى شيء مهم لبقائك أو تطورك. نحن لا ننجذب لأي محتوى بشكل عشوائي - حتى فيديوهات القطط والكلاب و"عريضات تيكتوك" ومقاطع الستريمرز - بل ننجذب إلى إشارات رمزية تلامس احتياجات فطرية مزروعة فينا منذ مئات آلاف السنين: الانتماء، القبول، المكانة، المتعة، الأمان، المعرفة، الغريزة، والارتباط.

التطبيقات والألعاب لا تقدم هذه القيم… بل تقلدها.

كل نوع من المحتوى الشائع اليوم على المنصات الرقمية مبني على محاكاة سطحية لحاجة بدائية أصيلة:

  • فيديوهات الطعام ↞ تلمس غريزة البقاء واللذة
  • الأجساد المثالية ↞ تستغلّ الحاجة لمعرفة وتقليد الأنماط الصحية
  • الأجساد البشعة ↞ تستغلّ الحاجة لتصحيح الاضطراب ومساعدة المعاق
  • دراما العلاقات ↞ تغذي شوقنا للحميمية والانتماء وحلقات تروماتنا
  • المقالب والعنف ↞ توقظ غرائز السيطرة والانتباه للخطر
  • قصص النجاح والسفر ↞ تخاطب التوق للمكانة والحرية
  • الأخبار العاجلة ↞ تحفّز خوفنا من أن نُستبعد أو نتأخر عن الجماعة


لكن كل هذا مجرد محاكاة رقمية جوفاء، تشبه الشيء الحقيقي… دون أن تكونه. قيم بلاستيكية مثل عملات مشفرة لا تملك وزنها ذهبا، وهكذا يتحول هاتفك إلى آلة عبوديية معاصرة، تبقيك مشدودا، لا لأنك سعيد… بل لأن دماغك يعتقد كل الوقت أنك على وشك أن تكون كذلك، لو فقط تضغط هنا، وتنهي هذا الفيديو، السعادة في أقرب ركن.

نحن ندمن الانتظار، ندمن الأمل، سعي دائم لا يؤدي إلى سلام حقيقي.

أحدث أقدم

نموذج الاتصال