ما بعد بعد بعد بعد بعد الحداثة
فلسفة ما بعد الحداثة تنطلق بوضوح - كنفس طويل أخير لحداثة مريضة - من فكرة أن الحقيقة ليست شيئا موضوعيا خارج الإنسان بقدر ما هي مجرد لعبة اجتماعية تُدار من خلال السلطة واللغة. كل شيء عندهم بناء اجتماعي (الهوية، الجندر، الدين، الأخلاق، العلم)، ولا وجود لحقيقة في ذاتها، فقط سرديات بنات زنا تتصارع على الشرعية الأبوية للحقيقة.
صديقك الذي لا يحتاج أن يقرأ فلسفة ليسخر من اللحايى هو مابعد حداثي، البقال البسيط الذي يخبرك دائما نكت حول نفاق المجتمع المحافظ هو يتصرف حسب روح ما بعد الحداثة، لا عليك بالضرورة أن تكون فيلسوفا أو مثقفا أو أكاديميا - بما يكفي ليقرأ هذا النص ويفكر أشياء مثل "همم جميل، خطاب سلطوي آخر يحاول احتكار المعنى بالنوستالجيا الدينية." - لتكون متقمصا لهذه الكينونة.
من التمرد إلى الطغيان
هذا الذوق الفكري يبدأ عادة بكره شديد للطغيان والظلم وغياب العدل والنفاق، يليه إعدام بدون محاكمة لفكرة "الحقيقة"، باعتبارها السيف الذي يراه مستعملا داخل أرض المعركة لتبرير تلك السلط وذلك الظلم، ثم باللغة والرموز والتصنيفات يعيد اختراع سلاحه الخاص، هذا السلاح يصبح صوابا سياسيا طاغيا جشعا.
في الأول سيخبرك أن السلطة تشوه الحقيقة، هنا مايزال ضمنيا يعترف ب"حقيقة" تتعرض للتشويه، بعد تمكنه داخل المنظومة الثقافية، سيخبرك بعدها أن السلطة في الواقع "تخترع" الحقيقة، وهنا تقوم القيامة.
هو نوعا ما محق في أول مراحل تحركه ذاك، لكن يفشل فقط في معرفة إلى أي درجة هو محق.
تصف، فقط
وهذا ما يفشل حتى معادي ما بعد الحداثة في إدراكه، هو أنهم محقين بعض الشيء، كل ما في الأمر أنهم لا "يفضحون" الواقع كما يُتخيل لهم، هم فقط يصفوه، وتلك الخطوة العدمية الأخيرة غير الضرورية هي المشكل الوحيد.
في البرمجة، هذا يشبه واحد يصف لك كود الFront end، ويعتبر دقة وصفه دليلا لعدم وجود الBackend.
ما بعد الحداثة تمتلك تلك النزعة الطفولية عندما تصل للمراهقة وتكتشف أن الكبار كاذبون ومخادعون، لا يوجد بابا نويل والحياة ليست سهلة وكذا، وتمتلك تلك العدوانية تجاه النفاق والتزييف، ولهذا ربما ينجذب لها الكثير من الأفراد ذو العُصابية "Neuroticism"، من الشباب الصغار للمضطربين نفسيا، مثل كيف ينجذبون لأي Cult توفر نظاما تحرريا من سلطة الآباء.
هي تصف واقع الإنسان الاجتماعي بدقة ممتازة، تفضح كيف أن "الحقيقة" في العالم الحديث خاصة تُصنع في مختبرات القصور والحوزات وبيوت الخبرة "Think Tanks" والإعلام والجامعات والمؤسسات السياسية، وكيف أن ما يُقبل أو يُرفض وما يصادق عليه ليس دائما مبنيا على منطق أو دليل بقدر ما يُصاغ حسب مدى توافقه مع مصالح السلطة والثقافة السائدة "بالقوة".
الحدود
لكن الإشكال الجوهري هو أن ما بعد الحداثيين من شدة اللهفة للهدم وتخليص المنظومة من الشر، لا يرون حدود نظريتهم. وهذا في الواقع من مميزات الزخم التصحيحي الطبيعي، لا يتم مقاربة التفريط أو الإفراط أولا بالوسطية والاعتدال، أول حركة تصحيحية تكون عادة مواجهة الExtreme بالExtreme، ثم بعدها يأتي دور الوسطية لقيادة ذلك التفريط أو الإفراط التصحيحي الجديد كما يقاد ثور خارج غرفة نوم.
فإذا كانت كل حقيقة بناء اجتماعيا، فهذه الجملة نفسها كذلك، وبالتالي لا يمكن الوثوق لتلك الدرجة بنفس المنطق ليأخذنا للمرحلة ما بعد التفكيكية للسردية، لا يمكن البناء فقط بالهدم، في ذلك نفي لإمكانية الوصول إلى أي معيار خارجي للحكم على الخطأ أو الصواب، في ذلك نفي حتى للمعيار العصبي-إدراكي الضمني المستعمل من طرف الملاحظ المفكك، وبالمعيار الخارجي نقصد نفس الأرض التي يقف فوقها المابعد حداثي ليصرخ لا وجود لأرض.
هناك من يؤمن أن الأرض عليها أن تكون مسطحة، كروية، لتشتغل، وهؤلاء يؤمنون أن الأرض عليها أن تظل تهتز لكي تشتغل، تهتز تحت القيم والتقاليد وأي معنى ثابت. ولا إله عندهم إلا الفردانية، طبعا هو نفس الإله الذي يسمح لفوكو مثلا بالنفاذ باغتصاب الأطفال في تونس والهوس بالجنس الشرجي لكن ما علينا.
الحلقة
هذه الحلقة المفرغة التي تعيد تدوير الشحنة هي ما يجعل ذلك الفكر يتحول إلى أداة تفكيك ذاتي، فكلما نجحت في هدم فكرة، تقود نفسها تلقائيا إلى هدم الأدوات التي استخدمتها في الهدم، هي فلسفة تلتهم نفسها ومصيرها العدمية وتكريس الاضطراب العقلي.
كينونة الفيلسوف لا تستطيع أن تعيش في التفكيك الدائم وتظل صحية للمنظومة، في لحظة ما سيحتاج إلى أن يبني، أو على الأقل يأخذ استراحة من الهدم، لكن روح ما بعد الحداثة المتمردة عاجزة عن البناء أو التوقف، لأنها لا تؤمن بوجود لبنة حقيقية يمكن أن يبدأ منها هذا البناء.
لذلك، هي ليست مشروعا حضاريا، هي مجرد معول يُستخدم عند الحاجة لهدم السرديات القائمة وإفشاء سرديات جديدة من طرف الماسك لذلك المعول، الذي يعي بفائدة خطورتها، لهذا كانت هذه الروح التفكيكية دائما أفضل وسيلة لتبرير الأنظمة العالمية والمستبدة، جسد من الأدبيات والثقافة الشاذة يتم استدعائه عند كل ضرورة فاشية.
vs vs VS
كلما كان المفهوم أكثر بُعدا عن الواقع، كلما احتاج إلى بروباغاندا اجتماعية وإعلامية أكبر ليُزرع في الوعي الجمعي، كلما احتاج نظيرا لها لنزعه وتثبيت البديل الديكتاتوري له.
الحقائق الفطرية الطبيعية لا تحتاج إلى بروباغندا لتُثبت الجدوى خاصتها، لأنها تفرض وجودها بالعواقب، أما الحقائق المزيفة، فيجب صنع محاكاة للطبيعة وضخها داخلها باستمرار عبر التعليم، والسياسة، والسينما، والإعلام، كي لا تنهار أمام أبسط احتكاك مع الواقع، والذي يحدث دائما عاجلا أم آجلا أمام الزخم التطويري التصحيحي.
ما بعد الحداثة كمشروع فكري، لا يمكنها أن تعيش إلا طالما هناك شيء تُفككه، وحين تنجح في تفكيك كل شيء، لا يتبقى أمامها إلا أن تفكك ذاتها، وهكذا مصيرها دون تدخل الاستمرار في حلقة إلى ما لا نهاية تفكك كل يقين.
الاستمناء الفكري
أي نعم تصف الواقع الإنساني المعاصر بدقة مذهلة، لكنها في النهاية عاجزة عن تجاوز الوصف، تجاوز ذلك الاستمناء الداخلي بالكلمات والشعور النخبوي البزودو-أكاديمي الذي يسقط دائما في تبرير الاضطراب، الذي غالبا "إحصائيا يعني، عند دراسة معتنقي الفكر" أيضا ما يكون جنسي.
الشيء الذي يفقدهم عادة صوابهم عند التصادم مع ذلك المواطن العابر الساذج ذو الحدس البدائي الذي لا يفهم الكلمات الكبيرة والأفكار المجردة خارج نطاق الخبز والماء لكن في نفس الوقت قد يرى بوضوح عبر الضوضاء ويلاحظ أن خلف كل تلك الحروف والكلمات العميقة المتراصة لا يوجد في آخر المطاف سوى أورغانيزم آخر يريد فعل ما يشاء، أن يDo What thou wilt، ما لذ له وطاب.
الواقع يتكفل
فعندما يبني المجتمع مثلا كذبة (شرب الخمر آمن)، فإن الواقع يتكفل في النهاية لعمل التدقيق اللغوي، وينتج لك مئات آلاف الاضطرابات كل يوم بسبب الخمر، فبينما يشكل البناء الاجتماعي الإدراك والحركة الأولى، الحقيقة الموضوعية هي التي تشكل النتائج النهائية.
في عصرنا الحالي، تلك الروح المتمردة تحاول الآن هندسة هذه المعادلة عكسيا. "إذا لم نستطع التهديم بالكلمات، سنحاول تغيير النتائج الموضوعية"، بأدوات مثل الترانسهيومانية والمالثوزية تحت رعاية الBig Tech والنخب الدموية "النقية".
لنعترف
لكن من ناحية معينة يجب الاعتراف من جديد بأنهم جزئيا على حق، بكل أمانة علمية، في الحياة الواقعية على الأقل حسب تأريخ الوضع البشري المضطرب الحالي، بدليل احتياجهم هم أيضا للصعود فوق مقلاع إنسانيات الليبرالية واليسار وانطلاقهم بكل نخوة مونوبولية سلطوية داخل الثقافة.
فنعم، الناس لا يربحون النقاش بالكلمات عادة لأنهم على حق، فقط، بقدر ما يحصل ذلك، أيضا، وأحيانا حصريا، لأنهم يملكون سلطة رمزية أو مؤسساتية أو عاطفية أو ثقافية، ابتداء من عدد الأرقام جنب حساب الشخص عالسوشيال ميديا، أو من عامل له فولو في تويتر، أو عدد مشاهديه، إلى الحروف "Dr"، "Phd"، "Prof" قبل اسمه.
ولهذا السبب، نلاحظ عادة كيف يتم تهميش المفكرين المستقلين لافتقارهم إلى تلك الشرعية الاجتماعية، لكن هذا يُنسب في الحقيقة لنفس النظم التطويرية الغريزية الثابتة التي من بين أدوات تقييمها للقيم، هو الاعتماد على المراجعات "reviews" المقدمة من عناصر المنظومة "البشر"، ولنا في السوشيال ميديا أفضل مثال لهذا المعيار الطبيعي الثابت، التافه "الذي لا يوفر قيمة حقيقية"، ممكن يشتهر بنفس شهرة الهادف "الذي يوفر قيمة حقيقية"، لكن كلاهما يمتلكان حظوة نفوذ مختلفة عند العوام.
لكي تتحدث الحقيقة، عليك أن تتخذ خطابا شعبيا، عليك أن توافق على القوانين والقواعد وتوقع الاتفاق الاجتماعي، عليك أن تلوي ذراع تلك الحقيقة، لا تكسره لكن فقط بما يكفي لتراعي حاجيات ومميزات المجتمع المستقبل لتلك الحقيقة، وهذا بالضبط ما تصفه ما بعد الحداثة، لكن شيطونه.
السيادة، فجر الليلة المظلمة
وفي الأخير، إذا أردنا ممارسة بعض الرومنسية، فيمكن اعتبار ما بعد الحداثة انعكاسا فلسفيا لوضع بشري بدأ يدرك أن العالم مجرد وهم، لكنه افتقر إلى تلك الأدوات الروحية التي أبعدها عنه تشويه الدين، والتي كانت من المفترض أن تمكنه من تجاوز والتأقلم مع هذا الوهم.
يمكن اعتبارها النسخة الفكرية من "الليلة المظلمة للروح"، روح تفكيكية انسلت من مجمل الباكدج التصحيحي للدين (الذي هو أول نظام تهديمي مارس ما تحاول ما بعد الحداثة ممارسته قرون قبل ظهورها).
التصحيح فقط مسألة وقت بالنسبة لزاوية وعينا، فعندما تبدأ المجتمعات ما بعد الحداثية، في سعيها الفاشل في آخر مطافه لصنع محاكاة للواقع، بالعيش داخل عوالم لغوية، ورمزية، ورقمية بحتة، تبرز محاولات استرجاع السيادة كرد فعل تصحيحي... من بينها هذا الموقع.